صورة كاريكاتيرية لشيطان يبكى، لأن فنانا قرر أن يمسح أغانيه بعد موته، والحدث الكاشف للوعى الفنى فى مصر هو كل مرة موت مفاجيء لأحد الفنانين وبعده تنهال المفاجآت الكبرى، وهو أن عددًا لا بأس به من فنانينا يرون أنهم يعملون فى الحرام وأن عليهم أن يتوبوا عن هذا الحرام عند الموت أو عند اقترابه، وذلك مع وضع شرط بسيط وهو أن يحققوا الثراء أولًا فى الحياة الدنيا، فيركبون أفخم السيارات ويسكنون أكبر القصور بأموال اقترفوها والعياذ بالله من محبة الناس لأعمالهم الفنية، وبذلك سيكونون قد ضربوا عصفورين بحجر وكسبوا الدنيا والآخرة وتركوا لأولادهم إرثًا يكفيهم وصالحوا السماء أيضًا بمسح أعمالهم الفنية.
يالها من مهزلة أخلاقية وتناقض يُثير الحزن أكثر مما يُثير الضحك، لقد صار الفن إثمًا وذنبًا بعد مسيرة طويلة، كان الفن هو السلاح وهو الوعى وهو المَخرج من كبوات كبرى، هذا الفن الحرام الذى كان ممن اشتغل به أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم وعلى الحجار ومحمد منير وأنغام ووردة وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة، وصنعوا شريط صوت موسيقى مصاحبا وملازما لحياة ملايين المصريين، فصبروا وعملوا واشتاقوا وأحبوا وحزنوا وفرحوا على نغماتهم، صارت آذاننا حرامًا وأيامنا وليالينا حرامًا، حتى ذكرياتنا، هكذا صارت ذنوبا لا تستحق سوى المسح والحرق.
الكارثة هنا أن من يُحرم الفن ليس رجل دين متطرفا فهم الدين فهمًا خاصًا به شخصيًا، لكن الفن الآن فى هذا العصر يُحرّم من قِبل ممارسيه.
كنت أود أن أكون رسام كاريكاتير حتى أرسم حزن الملائكة على مسح فنان جيد أعماله الفنية وليس حزن الشياطين، فالأعمال الفنية الجميلة تُسعد الملائكة وغياب الفن هو خلو الساحة للشيطان والإرهاب.
كنت صبيًا وقت انتشار المد الدينى المُتشّدد، وكنت أندهش عند الاستماع إلى شيوخهم وهم يسخرون من الفن، ويزداد اندهاشى من حفظهم كلمات الأغنية والنغمات الموسيقية التى يسخرون منها وكأنهم يستمعون فى السر، وتولد لدى إحساس من حينها أنهم يفعلون كل ما نفعل فى السر ويعاقبوننا عليه فى العلن، يتزوجون العديد من النساء ويحرمون أن يتبادل الشاب والفتاة التحية فى الجامعة، يركبون أفخم السيارات ويدعون الزهد ويتلقون ملايين الجنيهات لنشر اليأس بين الناس وتحريم كل شىء، وكلما زاد التحريم اختفت الفنون وصناعها ومبدعوها، وفارق كبير بين عصر يُدندن فيه أهل الحب وأهل الله بأغانى أم كلثوم وعصر يُحرم فيه أهل الفن أنفسهم ما يقدمون من فن، صارت هناك (شيزوفرينيا) حقيقية تقسم المجتمع إلى جمهور وفنانين.. جمهور يحترم الفن ويحتقره فى آن واحد، وفنانون يقدمون الفن ويحرمونه فى آن واحد، وفى النهاية على الفنان أن يعرف أنه ليس لصًا يرجو توبة ولا قاطع طريق ولا تاجر رقيق أو ممارسًا للدعارة، وأن الحرام هو الحرام، وأن ما يقدمه للناس فنًا، منه الجيد ومنه دون ذلك، وأن ما يحركه لتقديم ذلك الفن هو دافع قوى تحركه موهبة وهبها الله له، وأن المُدان فى الفن هو الإصرار على تقديم القبح والابتذال، وأن عليه أن يترك فنًا حقيقيًا من بعده فيكون له الأثر الجميل على النفوس والأرواح جيلًا بعد جيل، ويكون أيضًا دخلًا طيبًا من حق الأداء العلنى لأبنائه وأسرته يقيهم شر العوز، وعلى الناس أن تعرف أن الاستماع إلى الغناء وما يحققه لهم من متعة وذوق وفهم جديد للمعانى ليس هو الحرام، لكن الحرام هو النفاق ونهى الناس عن أفعال تسعدهم.
العالم حولنا يخطو نحو الغد بينما نحن نحاكم الماضى والحاضر، العالم يحتفى بالحياة وبسعادة الأحياء بينما نحن نحاسب الأحياء والأموات، العالم يغنى ونحن نمسح الأغانى، نمسح الفن الوحيد الذى استطاع أن يخطو بنا خطوات حقيقية للأمام، فن الغناء والموسيقى المصرية هو الفن الذى حقق ما لم يحققه سواه، فإن كان تاريخ الموسيقى المصرى الممتد عبر قرنين من الزمان وحتى تلك اللحظة حرامًا فماذا يتبقى لنا من حلال نتباهى به بين الأمم؟.
عن "بوابة الأهرام"
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة الحكاية ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من الحكاية ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
انتبه: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة مصر اليوم ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من مصر اليوم ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.